إعلان
-
اغتيال حلم مصطفى العقاد .. و المشهد الأخير
اغتيال حلم مصطفى العقاد.. والمشهد الأخير
علي سعيد القحطاني - المجلة الثقافية
في إحدى المناسبات الثقافية وقبل سنوات، شرفت بلقاء هذا الرجل في ردهات فندق الإنتركونتننتال بالرياض، حينها لم أصدق أن الذي أمامي هو المخرج العالمي مصطفى العقاد الذي طالما أمتعنا بأعماله السينمائية التي تجمع ما بين المتعة والفكرة، رأيته - وهو يمسك بغليونه الفاخر الذي دائما ما يتباهى بإشعاله - يتحدث عن ثقافة الصورة والفن السابع، لم تنسه أضواء هوليود ونجوميتها انتماءه لأرومته العربية. كان يتحدث عن الصورة الحقيقية للحضارة العربية والإسلامية وما تحمله من تسامح وصفاء وتآخٍ مع الآخر، وطالما نادى بذلك في روائعه السينمائية الخالدة. ومن منا لم يشاهد فيلم (عمر المختار) الذي جسد من خلاله كرامة الإنسان وتحرره من كل القيود، ونهاية مشاهده التي أبكت الصغار قبل الكبار حينما سقطت نظارة الممثل العالمي أنتوني كوني الذي استطاع أن يجسد تلك الشخصية/ الرمز إلى درجة تفوق الوصف وتصل إلى حد الإقناع وتوهم المشاهد بأنه الشخص الحقيقي لعمر المختار.. وكذلك استطاع أن يوصل من خلال فيلمه (الرسالة) الرسالة الحقيقية للدين الإسلامي الصحيح إلى المجتمع الغربي.. وكان يرى أن العالم العربي يستطيع أن يقنع ذلك (الآخر) بما لديه من رؤى وأفكار حول مجمل من القضايا والأحداث، عبر بوابة هوليود وكان - يرحمه الله - شأنه شأن أي مبدع عالمي ما أن ينجز حلما حتى يراوده حلم جديد وكان يتمنى أن يرى عمله السينمائي عن (صلاح الدين) النور إلا أن سلاح الغدر والأيادي الملوثة بالإرهاب اغتالت هذا الحلم.
كان الحلم يراود مصطفى العقاد منذ الصغر أن يصبح أحد أهم صانعي القرار ومخرجي الأفلام في البيت العالمي للسينما (هوليود) ويحكي عن حلمه لأقرانه من أبناء ضيعته فتضج المدينة ضاحكة من حلم هذا (الفتى) وتقول له كما جاء في حواره مع - مجلة عربيات الإلكترونية - (احلم على قدك، اذهب إلى الشام أو مصر لتدرس الإخراج هناك.. لكنني كنت مصمماً على هوليود). وفعلا قرر مصطفى العقاد أن يعقد العزم على تحقيق حلمه وكان حينها طالبا في إحدى المدارس الأمريكية عندما قدّم طلبا لجامعة (يو سي إل آي) وحظي بالقبول فيها، عندها قال والده: افعل ما تشاء لكنني غير قادر على إعانتك مادياً. ومكث عاما كاملا يعمل من أجل أن يوفر ثمن بطاقة الطائرة وقبل رحيله إلى بلاد ما وراء المحيطات، أعطاه والده مصحفاً و200 دولار وهذا كان أقصى ما يملك.
ما يميز هذا الرجل الآتي من الشرق أنه لم ينبهر بالأضواء الغربية وما لديها من مفاتن حضارية، بل كان يؤمن بانتمائه إلى التاريخ والأرض واللغة، وكان يعتز بدينه وقوميته ويشدو بالغناء لتلك الحضارة ويقول: (الرحلة كانت شاقة، فلقد ذهبت فقيراً مادياً، لكنني غني دينيا وتربويا وقوميا وهذا كان رأسمالي.. وعندما وصلت إلى أمريكا وعرفت المجتمع هناك قدّرت قيمة الأخلاقيات التي رباني عليها والدي، لكنني لا أنكر أنني حملت معي بعض مركبات النقص وعلى مقاعد الدراسة ومع الاختلاط بجنسيات عدة اكتشفت أنه لا شيء ينقصني كوني مسلما وعربيا.. وبعد هذا الاكتشاف حدث انقلاب في تفكيري ومركب النقص تحول إلى ثقة ومن هذه النقطة بدأت أنقل الخبرة إلى وطني وصممت أن أقدم لأمتي خلاصة تعبي وتصميمي وذلك عن طريق الأفلام السينمائية وتوجهت إلى التاريخ، ففي يوم من الأيام علمنا (الهمج) الأوروبيين! نحن من علّم الفلك والطب واكتشف الأبجدية).
يعد مصطفى العقاد أنموذجاً حيا وواعياً للإنسان العربي المسلم الذي استفاد من معطيات الحضارة وحداثتها، يقرأ واقع أمته على ضوء التاريخ ويرى أن الأزمة التي تعيشها الحضارة العربية تعود إلى عدم اعترافنا بالأخطاء ودائما لدينا (الشماعة) التي نعلق عليها أخطاؤنا. وظلت روحه وحتى الرمق الأخير متعلقة ب(القدس) فهو من خلال حلمه لإخراج فيلم عن (صلاح الدين) الذي لم ير النوى بوفاته يريد أن يؤكد عروبة (القدس) ويقول: الآن هو التوقيت المناسب لفيلم صلاح الدين، وهناك عمل آخر لم ير النور بعد وهو فيلم (صيحة الأندلسية) والمرأة التي حكمت الأندلس في القرن الثالث عشر الهجري، وكان يريد من خلال أفلامه تلك أن يوصل رسالة للمشاهد مفادها أن العالم كان في يوم ما مبهوراً بحضارتنا المجيدة في بغداد ودمشق وقرطبة، ويعلق المخرج بأسى عن هذا الوضع ويقول: إنه لإسقاط معاصر مريع، اليوم يذهب العربي إلى أوروبا مبهورا بالحضارة الغربية.
إذن كان لديه مشروع فيلمين لم يريا النور بعد (صلاح الدين) و(صيحة الأندلسية) ودائما ما كان يبحث عن ممول في الفيلم الأول، ونجزم أن لديه العشرات من السيناريوهات والقصص التلفزيونية ما تزال قابعة في أدراج مكتبه. وتلك إشكالية يواجهها المبدع العربي فهو يشكو من جحود مجتمعه الذي لم يعِ قيمة (الكلمة) بعد، لذا نتوقع أن يكون مصير أعمال مصطفى العقاد التي لم تر النور بعد كمصير أسلافها من الأعمال المجهولة التي درست وبادت وانقرضت بموت أصحابها المبدعين وأصبحوا في ذمة التاريخ.
ونحن نجزم بأن لو كتب لمصطفى العقاد في سنيه الأولى البقاء في مجتمعه، لما رأى فيلميه (عمر المختار.. والرسالة) النور بعد.. حقاً إننا مجتمع يئد أبناءه المبدعين.
المجلة الثقافية - علي سعيد القحطاني
قراءة للموضوع
0 التعليقات: