إعلان
من دواعي سرورنا أن تشاركونا بالمقالات (مقالات شخصية أو منقولة مع ذكر المصدر) و الصور و كل ما يخص الراحل مصطفى العقاد رحمه الله moba2020@yahoo.com
-
مصطفى العقاد: مات قبل أن يموت
مصطفى العقاد: مات قبل أن يموت
ثريا الشهري - الشرق الأوسط
«الصراخ لا جنسية له، وكذلك الدموع، والدم الذي سال.. ليس قابلاً للتصنيف إلى نخب أول، ونخب ثان، ونخب عاشر» هكذا يقول شاعرنا نزار قباني، وكذا نردد معه، فليس هناك من عمومية أو خصوصية في الموت، ولكن يصح أن يموت من انتصر على المنية بعمله، فحمل معه أثناء حياته جواز سفر فتح له المطارات بلا أختام ولا تأشيرات، إنهما فيلما «الرسالة» و«أسد الصحراء: عمر المختار» لصاحبهما المخرج الكبير مصطفى العقاد، الذي استدرجه قدره لموته، فتوفي بإخراج غبي من مصاصي دماء أقنعهم شيطانهم بشهوة القتل باسم الدين، فعن عبثية الإجرام لا تسأل، ولكن سل عن موقف الحضارة من هادم يبقى، وبان يموت، فالعقاد قد أهدى الإسلام فيلمين لن تفلح كل أفلام قطع الأمل واغتيال العقل التي يخرجها الفشَلَة، أتباع الزرقاوي في الصمود في وجه خلودها، فمنا شاهد فيلم الرسالة ولم ينفطر قلبه حباً للدين وللرسول صلوات الله عليه وسلم! منا شاهد «الرسالة» ولم يعتصر ألماً وشوقاً لرؤية حمزة رضوان الله عليه، وسهم العبد وحشي يخترق صدره وقد تخلت الشاشة عن صوتها وموسيقاها لتتجمد الدنيا عند اللقطة الدامية في ذاكرة الإسلام! منا تعرف على المجاهد الليبي عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي لبلاده قبل أن يتجسد في أروع الأفلام وأقواها نطقاً لمعنى الجهاد، وشرف المقاومة، حتى إذا وقع الشيخ الجليل في الأسر، وجاءت مساومة المحتل مقابل تخليه عن قضيته، أبى المجاهد الطاعن في السن التنازل، وتمنى على محتله الأجنبي ألا يتقوّل عليه بعد موته ما لم يقله في غرفة المقايضة، فإذا حانت لحظة الإعدام، ترى القائد الإيطالي وهو ينظر إلى الجسد المدلى، لا يملك غير البكاء عليه حرقة واحتراماً.
نعم، هذه هي البطولات الإسلامية التي كان يجب أن نحرص ونفخر نحن المسلمون على خروجها للشمس، لترى أجيالنا، كيف أن نماذج قد حفرت اسم دينها عالياً، وعلى طريقتها، فالملك يغيّر العالم، والصعلوك يغيّر هو الآخر، ولكن يظل اختلاف الوسيلة والسلوك هما المعياران في القياس، ونحن أمة محمد لدينا من التجارب القادرة على تحريك المياه الآسنة داخل الإنسان العربي ما لم نلجأ إليه حتى الآن، وهو ما فطن إليه مخرجنا الراحل، الذي لم يتوجه إلينا فارضاً نفسه بقصيدة مفردة المعاني، ولكنه استعمل لغة قادرة على جملة الاختراق والتواصل، لغة الحركة، التي هي أقوى من كل الكلمات، فالصورة المعبرة بألف كلمة، وقد نقرأ مقالاً طويلاً فتأتي لقطة يتيمة فتختزل كل أبجدياته.
كان حلم العقاد أن يخرج فيلماً يحكي عن البطل صلاح الدين الأيوبي، الذي لم نكن أحوج إليه برؤية موضوعية عقلانية كما نحن عليه اليوم، وقد ألحّت على الرجل أمنيته أن يحققها وبالذات بعد أحداث سبتمبر، في محاولة منه لتوزيع التحامل الذي شن على الإسلام وأهله، ولا نظن أن فيلماً ينصف المسلمين سيموّل وبحماس من قبل غير المسلمين، وهو العمل ذو الإنتاج الضخم الذي لا يقدر عليه شخص بعينه إلاّ إن كان من أصحاب الخانات الصفرية الممتدة، إنه الواقع الذي استوعبه الرجل ولم يتأخر، فقاده هاجسه إلى ذوي الأرقام المفخّخة ليقنعهم بمشروعه، وكم نال من وعودهم، وكم نام على أحلامه، والغرب يتفنّن في إنتاج ما يخدمه، والعرب يكتفون بأفلام الزرقاوي المقززة، ومع ذلك لم ييأس الرجل وظل قابعاً في بهو أكبر الفنادق العالمية تحسباً لخلق الفرصة الصادقة، ولكن كلنا نعلم أين تذهب ثروات أغنياء العرب بكل اعتزاز، وكلنا نعلم أين يشح صرفها نزولاً عند الرغبات المصلحية، وتجنباً لتسجيل المواقف المحددة، حتى إذا غادرنا من أتقن أدوات الصنعة، وكان مستعداً لتوظيفها جنباً إلى جنب مع بدلة «السموكن»، وعباءة العربي، مع طقس الشتاء في هوليود، والصيف في القدس، بمراعاة فارق التوقيت واللغة، ليمزج خطابي الشرق والغرب في خطاب واحد، قد ينجح في دمجه، وقد ينقص في تجربته، ولكنه حتماً كان سيضيء أكثر من شمعة في ظلأمنا المربك، أقول وقد رحل رجل الإخراج، سنشهد تسارع المحطات الفضائية بتذكر أعماله ومقابلاته، ولا نستبعد أن يجيز الأزهر عرض «الرسالة»، وقد يكرّم بعد موته كالعادة ويتسلم الورثة جائزته، ولكن أبداً لن يهدأ السؤال «إياه» من دورانه الفلكي: لم نحن مفلسون في اقتناص الفرص؟
لا نعرف قيمة الأشياء إلا بعد أن تودعنا، أليس هذا سبباً كافياً لتقهقرنا! فالعقاد لم يمت لحظة فارقته الروح، لقد اغتلناه ألف مرة يوم تركنا موهبته تضيع وسط الرماد، فمنذ إخراجه لفيلم الرسالة في عام 1976، وكان له من العمر واحد وأربعون عاماً، كان أمأمنا حتى يوم وفاته ثلاثون سنة كاملة لنلتفت إلى ما في حوزة الرجل، ولم نفعل، وليتنا فعلنا.
حتى لقد تبرع أستاذنا سمير عطا الله في معرض حديثه عن صديقه بمعلومة توجهت إلى إحساسي بالخسارة لتثقله، فالرجل الذي فقدنا كان بصدد إخراج فيلم عن شخصية الملك عبد العزيز، ولئن كان صلاح الدين بطل العصور القديمة، فماذا عن قائد العهد الجديد! وحكايات شجاعته وحكمته في التوحيد، إن نظرة واحدة للفوضى من حولنا لتقطع بفضل كلمة «الوحدة»، ومع هذا، بقي المشروع حلماً، وخبراً معلقاً ينتظر الترجّل.
يؤسفني الاعتراف بأن فيلمي «آلام المسيح»، و«فهرنهايت11/9» قد أثبتا أن ساحة السينما ليست مسوّرة بقضبان الحديد الصهيونية كما تحججّنا بها دائماً، فمن لديه طرح جريء وميزانية أجرأ فليتفضل، لن يزف بالورود هذا طبيعي، ولكن لن يضرب بالمنجنيق موتاً، ثم، ألا تستدعي كربلاء العراق المخاطرة بفيلم تسجيلي واحد على الأقل يقص لنا بعضاً من قصاصات ويترك لنا الحرية في قبولها أو رفضها! أم أنه الشبح الزرقاوي هذه المرة! أين نحن مما يجري لنا! رحم الله العقاد وابنته، وكل من قتل في ذلك الكابوس الأسود...آمين!ثريا الشهري - الشرق الأوسط
قراءة للموضوع
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات: