إعلان
من دواعي سرورنا أن تشاركونا بالمقالات (مقالات شخصية أو منقولة مع ذكر المصدر) و الصور و كل ما يخص الراحل مصطفى العقاد رحمه الله moba2020@yahoo.com
-
الشهيد مصطفى العقاد ...قتلوه قبل فيلم التسامح الاخير
الشهيد مصطفى العقاد ...قتلوه قبل فيلم التسامح الاخير
توفيق التميمي - مركز النور الاعلامي
قريبا من دجلة
مازال عالقا في ذاكرتي عبق ذلك النهار الرمضاني القائظ قبل ثلاثة عقود زمنية وانا اسابق اللحظات والشوق للمشاهدة الاولى لفيلم الرسالة العظيم والذي سبقت عرضه حملة اعلامية صاخبة، يومها اصطحبني صديقي العاشق للسينما الى شارع السعدون حيث ستعرض سينما بابل الحكومية آنذاك العرض الاول لفيلم الرسالة الخالد لمخرجه العربي السوري مصطفى العقاد.
قبل عرض الفيلم
اتذكر بان الفاصلة الزمنية بين وصولنا وزمن العرض كانت كافية لنقضيها في السباحة في شاطئ دجلة المحاذي لشارع السعدون الذي تزدحم فيه دور العرض السينمائية في محاولة نزقة لاطفاء سعير العطش في اجسادنا الغضة ونحن نجرب الصوم اول مرة في حياتنا .
دجلة كان ذلك النهار يتلألأ بهجة ويفيض بمياهه الوفيرة وسلال خيراته وبهجة مراكبه وصخب صياديه، ويومها كانت صفوف الاشجار المحاذية للنهر تحتفل بالعاشقين دون اكتراث لسلطة قمع تأتي من الناس او الحكومة او خوف يأتي من نظرات التطفل او التجريم القانوني لحرية العاشقين .
ما زلت اتحسر لاني لم اوثق ذاك الحدث الرمضاني بصورة ترسم دجلة في هيئة الوفرة لتلك المياه التي انحسرت رويدا رويدا مع تصاعد موجات الرعب ودورات الاحزان ونزول المصائب في الحروب والتشريد.. و مع توترعلاقة السلطة مع الناس وحكومات الدول المجاورة التي حبست منابع النهر العظيم عن مسالكه العراقية . وترسم بغداد بلقطاتها المدنية التي طمستها الاحداث والنوائب .
للنهر قصة من الجدب وحكاية من الاحزان ولكنه في قصتي لا يشكل الا استهلالا من ذاكرة طرية ظلت تحتفل لزمن طويل بمسرات فرجة بصرية لا يمكن نسيانها مطلقالفيلم ((الرسالة)) الخالد لذلك المخرج الشهيد مصطفى العقاد الذي يحقق طفرة ونقلة تاريخية ليس في مستوى الفيلم الديني وطبيعته فقط بل يفتح جسرا من الحوار مع الاخر في الغرب لايصال دعوات التسامح والاعتدال والزخم الانساني الذي وهبته لحظة الرسالة الاسلامية الاولى وأبطالها التاريخيين، بما عجزت عنه كل اساليب الدعاة التقليديين وفقهاء المصادرة والتكفير.
نجح العقاد بمهته التاريخية بامتياز لدرجة سمعنا قصصا كثيرة عن تحول كثير من مشاهدي الفيلم بنسخته الاجنبية من الغربيين مسيحيين ويهود الى الاسلام دينا ومعتقدا كما سمعنا بان كثيراً من مثقفي الغرب ومفكريه شكلت لهم مشاهدة الفيلم صدمة غيرت كثيراً من تصوراتهم والاوهام العدائية ازاء الاسلام واهله وتاريخه الاول.
فيلم احدث كل هذه الضجة والصخب في العالم الغربي في ذروة الصراع الرأسمالي والاشتراكي ماذا سيحقق من نتائج على ارض الرسالة ومهبط الانبياء واحفادها الباقين؟.
الفيلم بين جمهوره
اما في عالمنا العربي وعلى الارض التي انتجت هذه الرسالة ومازالت تتنفس عبق شذاها وعبير تراثها المضيء من المعرفة والعقل والامجاد وقصص التسامح. فكان للفيلم وعروضه المتكررة شأن آخر:
فكان (الرسالة) نقطة التحول في الذائقة البصرية لملايين من المشاهدين العرب والمسلمين الذين سئموا مشاهدة الكثير من الافلام الدينية التقليدية السمجة والمكررة بقصصها غير المنقحة والمعتمدة على مراجع متطرفة وروايات ضعيفة.
بينما مضى العقاد في تجربة فريدة سوف لن تتكرر في السينما العربية والدينية منها على وجه الخصوص،حيث استطاع العقاد بامتلاكه من خبرة عالية وتجربة عميقة وموهبة فذة وما توفر لديه من طاقم فنيين امام الكاميرا وخلفها من انتاج صناعة سينمائية متقدمة لم تشهدها الذائقة العربية من قبل وفي حقل يعد من اكثر الحقول والموضوعات حساسية بتوثيق لحظات الرسالة الاولى بنسختها المحمدية قبل ان تتلطخ نصاعتها او يمزق رداء وحدتها صراع المذاهب والمدارس والفرق وقبل ان تهدر قيم الرحمة والتسامح بين انياب الانانيات والتطلع البدوي للغنيمة والاستئثار بالسلطة واحتكار امتيازاتها .
ولذا كان من السهل على العقاد ان ينال بركات المرجعيات الدينية باختلاف مذاهبها في العالمين العربي والاسلامي بما فيها حوزة النجف وقم في ايران .
الرفض الوحيدالذي واجهه من السلطات الحكومية السعودية والتي منعت العقاد وكادره من التصوير على الاراضي المباركة التي جرت عليها وقائع الرسالة الاولى وتحفظت على عرضه ايضا ،فكانت ليبيا وقواتها المسلحة بديلا لهذا المنع والرفض السعودي.
قدم العقاد في رسالته فرجة بصرية جمعت اسرار الدهشة والمتعة كانت وراء خلود الفيلم في ذاكرة المشاهد وسحر مشاهدته في كل مرة.
تمكن الفيلم في قصته وحبكته ان يقفز على المرابطة التاريخية في مواقع التقوقع المذهبي وابقاء حدث الرسالة الاولى على توهجه البكر في اطاره المتألق والسابق على مالحقه من تاريخ الصراع السلطوي والحفلات الدموية للسلاطين وحروب الكراهيات وفتن المذاهب والتي تواصلت وقودها حتى يومنا هذه لتحرق استقرار الدول وتدمر مجتمعاتها الآمنة وتلصق سمعة التعصب والكراهية وشرعنة العنف بالاسلام حدثا ومعتقدا وهو من ذلك براء .
كان العقاد يدرك ببصيرته النافذة ان ثمة حروبا آتية وفتناً ستشتعل في هذا البلد اوذاك مقدمتها ذلك العرض المبتور والمشوه والانتقائي لرسالة الدين عبر منابر المساجد والاعلام والمناهج الدراسية دون ان تلتقط خيوط التسامح والاعتدال والشهامة الانسانية التي اقتنصها ببراعة العقاد في رسالته العظيمة وجسدها بلوحة فنية نادرة في تاريخ السينما العربية عموما والدينية التاريخية خصوصا .
نبوءات للحروب والفتن
تسابقت جميع دور العرض السينمائية في العالمين العربي والاسلامي والغربي على عرضه واستقطب الفيلم الملايين من المشاهدين وما زال يحتفظ بروعة لحظة عرضه وجديتها بعد اكثر من ثلاثة عقود وعامين على استشهاد مخرجه ومازال الفيلم يراهن على بصيرة الفنان العقاد باستشراف الغيب ونذر الشؤم بحروب وفتن أحرقت الاخضر واليابس في حياتنا المدنية واجهزت على موروث مجتمعاتنا بالتعايش والتسامح الانساني ،فعاصرت عروض الفيلم حروبا كان معظمها منطلقا بذرائع دينية ومباركات لفقهاءالسلاطين كالحرب اللبنانية المرة والحرب العراقية الايرانية الكارثيةوحتى الحرب الصربية على ابناء البوسنة المسلمين ،كلها حروب شنها المتقاتلون افرادا وميليشيات وجنرالات باسم الدين و مسمياته وانتحال تاريخه وتزوير لحظته الاولى الناصعة والتحدث بالنيابة عن رموز الدعوات الدينية الاولى وانبيائها وحوارييها الصالحين.
الرسالة سينما للمحبة الانسانية
العقاد الذي درس طويلا في هوليوود وصبر على مخاضات التجربة والتحصيل الفني والقراءات المضنية والمتعددة لتراث بلاده ليسفر عن ذلك كله انتاج تاريخي سيظل عالقا في ذاكرة الاجيال كثيرا وستبقى دروسه في التسامح راسخة لفترات طويلة في كل مرة يعاد فيها عرض هذا الفيلم .
العقاد استشعر بخطر الحروب التي تاتي بمفهوم معكوس عن حقيقة الرسالة المحمدية الاولى كما عرضها في مغامرته الخالدة وان هذا الخطر يقبع وراء الابواب ويتوارى خلف الاشجار وسيظهر بهيئات بشعة وسلوكيات عدوانية تخالف قيم المحبة والتسامح وسيكون العقاد نفسه ضحية لهذا الخطر التكفيري الذي عم العالم العربي والاسلامي منذ بداية ثمانينيات القرن السابق ومازال .
ولذا استحق بان يكون العقاد الشهيد فاتحا لعصر جديد اسمه الرسالة وهي رسالة السماحة والمحبة والنقاء. والتي لم تقاوم امام عواصف التكفير والمصادرة التي ستجعل من العقاد شهيدا وغائبا عن ميدانه الابداعي الذي حقق من خلاله ما عجزت عنه كل فتاوى الدعاة ورسائل التبليغ التقليدية في العالم الغربي.
قناعات مبكرة في التسامح
اعود لتجربتي مع المشاهدة الاولى للفيلم الذي عصمنى مبكرا من اهواء التعصب ومنعني من التورط في الخوض بحساسية في اختلافات المذاهب والابتعاد عن التعصب الاعمى لنصرتها ظالمة او مظلومة .
كان الدرس الاول لفيلم الرسالة في مشاهدته البكر هو انه بامكان السينما الملتزمة والموهوبة ان تهذب ملايين البشر وترتقي بافكارهم الانسانية بما تعجز عنه اطنان من الكتب وملايين من المواعظ الجامدة والجافة يلوكها دعاة مكروهون في المساجد ومنابر الجمعة وبرامج الفضائيات .
لست هنا بصدد تقييم ومراجعة الفيلم وعرض مزاياه الفنية وتشخيص الابداعي منها، ولكني اردت ان استرجع في رمضان ذكرى تنتمي لايامه المباركة ونفحاته الايمانية كان بطلها شهيد التسامح والاعتدال مصطفى العقاد الذي ينبغي تذكره باجلال كلما مرت بالامة موجات من عواصف الشر والفتنة تريد محو دروس (الرسالة) التي استعرضتها مغامرة العقاد الذهبية السينمائية، وبعرض فيلمه بلغتين وطاقمين عربي والاخر اجنبي استطاع العقاد ان يجازف بالدعوة لدينه بالحسنى وباحصاء ردود الافعال الايجابية التي اثارها الفيلم وحالات الاهتداء نحو الاسلام التزاما او تعاطفا وكذلك تصحيح كثير من التوهمات والتصورات الباطلة عن الاسلام وشخصياته.
نكتشف بان الفيلم تمكن من خلال ذلك الحوار بندية مع الغرب وبالتالي تحقيق نسبة عالية من النجاح الذي فشل به دعاة ورموز مذاهب وفقهاء سلاطين وائمة مساجد ومؤتمرات للحوار لا طائل منها.
نهايته الفاجعة
لم يكن العقاد ذاتا فردية بل كان هاجسا عربيا ابداعيا وزهرة غريبة نمت في حقل موحش وصحراء جرداء،لجأ مبكرا لهوليوود وسحرها بعد ان تلمس في روحه بدايات موهبة تصالحت مع افكار التنوير وشغب التغيير مستفيدا من هوليوود الساحرة في استخراج مكنوناته الابداعية وتصوراته الفكرية لتمتزج في اخراج رائعته الخالدة. استعار من اميركا حريتها ومن هوليوود اسرار صنعتها ومن نجومها ممثلين مقبلين في مغامراته التي ستأتي تباعا.
ولكنه بقي مع الوطن مشدودا بحبال قوية لم تهتز ومع التراث الاسلامي والشرقي تعاطفا وحنينا وتوقا لاستخراج كنوزه في قيم التنوير والمعرفة.
المصير الذي لاقاه العقاد على ايدي ارهابيين ينتحلون الاسلام هوية ويدعون انهم ابناء رسالته التي بشر بها العقاد ونجح بتبشيره في غرب محتدم بعقائده وتنوع افكاره فيما فشل فيه قاتلوه المجرمون.
والحكاية المدماة لمقتله مع ابنته الجميلة في مشهد اخير على ارض عربية يمثل محنة المبدع والحر امام القوى الغاشمة للتجهيل والتكفير وهي رحلة ابتدأها رموز الحرية والفكر من امثال ابن رشد والفارابي والحلاج، رحلة لم تكف عن قرابينها وضحاياها حتى هذه اللحظة المعاصرة فقتل العقاد على ايدي دعاة مزيفين ليس لهم سبيل للدعوة الا فناء الاجساد وخراب البيوت واطفاء اعراس الناس بقنابل الموت وفتاوى مسوغات العنف والمصادرة .
خلاصة الحكاية
حكاية العقاد ومصيره المفجع ومشاريعه التي عطلها موت غادر هي حكاية المحنة في تاريخ الابداع العربي حاضرا ومستقبلا.
فكيف يجازى هذا الانسان الذي نذر حياته وتاريخه السينمائي ومغامراته النبيلة بهذا الجزاء لربما كان وجود العقاد في فندق (راديسون ساس) في عمان مصادفة ولربما لم يقصد القتلة الارهابيون رسول التسامح والتنوير تحديدا ولكنهم تمكنوا من اطفاء الصفحة البيضاء والانجاز العظيم وسنظل نتحسر عليه كلما شاهدنا عرضا لفيلم الرسالة وافلامه القليلة والتي لا نمل متعتها ولا نسأم من مشاهدتها وسترفرف علينا روحه في لحظات الغياب المرة عندما نتحسس مكانه الشاغر خلف كاميرا كانت تعد الملايين من المشاهدين في كل العالم بفرجة بصرية مدهشة لعشرات الافكار والرؤى لنفض غبار الاكاذيب والاختلاق عن تراث تنويري وجسور لحوار فعال بين بني البشر ووقائع مطوية يمكن لها ان تقمع بوادر الفتن وتطفئ نار الاحقاد وتدعو لنشر النور على هذا الكوكب .
وتستمر الحسرة في قلوب معجبيه حتى انتظار مجيء اجيال جديدة من حملة التنوير ومشاعل الخير لتقتص لموته المفجع ومواصلة دربه ودرب رموز الحرية والفكر من قبله .
توفيق التميمي - مركز النور الإعلامي26/09/2008
http://www.alnoor.se/article.asp?id=32726
قراءة للموضوع
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات: